تمهيد منهجي. هذه مقالة تُشيد بموقف إسبانيا وشعوب أوروبية أخرى اختارت الضمير والقانون على السلاح، وتعرض أبعاد التزامها الأخلاقي والقانوني، وتضع ذلك في سياق التحولات الشعبية والرسمية داخل أوروبا، مع دعوة إلى وحدة الموقف العربي.
أولًا: الافتتاحية
«إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة
فلابُدَّ أن يستجيبَ القدر»
— للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي
لقد أثبتت الشعوب أن صوتها أقوى من صمت الحكومات، وأن إرادة الحياة، حين تتجسد في الشوارع والساحات والبرلمانات، قادرة على دفع التاريخ إلى الأمام. وما نشهده اليوم من تحولات في المواقف الأوروبية ليس إلا ثمرةً لضغط الشعوب، وتأكيدًا أن الضمير حين يتحرك يفرض نفسه على القرار السياسي.
ثانيًا: إسبانيا… موقف مشرّف أمام الحق
في زمنٍ تعصف به ازدواجية المعايير، برزت إسبانيا رسميًا وشعبيًا لتقول كلمة الحق. لم تكتفِ ببيانات الشجب ولا بخطاب إنشائي، بل أقدمت على خطوات عملية تُسجَّل لها في تاريخ المواقف العادلة:
- سنّت تشريعات تُرسّخ حظر تصدير السلاح إلى إسرائيل.
- منعت مرور البوارج والطائرات المحمَّلة بالمعدات العسكرية عبر موانئها وأجوائها.
- فرضت عقوبات شخصية على وزراء متطرفين مثل إيتامار بن جفير وبيزاليل سموتريتش.
- حظرت استيراد منتجات المستوطنات غير الشرعية.
- عزّزت دعمها للسلطة الفلسطينية وزادت من مساهماتها في المساعدات الإنسانية لغزة حتى بلغت 150 مليون يورو، إضافة إلى عشرة ملايين إضافية لـ «الأونروا».
هذه ليست مجرد تفاصيل تقنية، بل تعبير عن رؤية: إسبانيا التي لا تملك سلاحًا نوويًا ولا ترسانة هائلة، آثرت أن تستثمر في السلام والتنمية والكرامة الإنسانية، داخل حدودها وخارجها.
ثالثًا: أبعاد الالتزام الإسباني
- الاستثمار في الإنسان لا في السلاح: توجيه الميزانيات إلى التعليم والصحة والتنمية المستدامة بدل سباق التسلح.
- الموقف التاريخي مع القضايا الإنسانية: من فلسطين إلى أوكرانيا، ومن السودان إلى نيبال وأفغانستان، ظلّت إسبانيا ثابتة في دعم الشعوب المستضعفة.
- القانون كمرجعية: استناد إلى الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي الإنساني، لا مجاملات سياسية عابرة.
رابعًا: أوروبا… الضمير حين ينهض
ولقد صحّ أن التغيير في الاستجابة الرسمية داخل الاتحاد الأوروبي لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة ضغوطات الشعوب الأوروبية التي خرجت في الشوارع ورفعت أصواتها في الجامعات وأطلقت الحملات الحقوقية والإعلامية. هذه الضغوط تلاقت مع مواقف شجاعة من بعض الدول مثل إيرلندا وهولندا والسويد، التي وقفت في الجانب المشرق من التاريخ والإنسانية.
وقد تُرجمت هذه الإرادة الشعبية في الأسابيع الأخيرة بقرارات بارزة:
- اقتراح المفوضية الأوروبية تعليق أجزاء من الاتفاقية التجارية مع إسرائيل.
- إدراج وزراء متطرفين ومستوطِنين عنيفين في قوائم العقوبات.
- وصف الحرب على غزة بأنها قد ترقى إلى إبادة جماعية من طرف مسؤولين أوروبيين رفيعي المستوى.
خامسًا: خاتمة وتساؤل
وهكذا تُثبت إسبانيا أن الضمير الأوروبي، حين يُصغي لنبض الشارع ويستند إلى القانون، يمكن أن يلتقي مع وجدان الشعوب العربية والإسلامية، في موقفٍ إنساني مشترك لا يعرف حدودًا ولا قوميات.
لكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل سنرى، ومتى سنرى، موقفًا موحدًا وصلبًا من جامعة الدول العربية — فعلًا وقولًا — لا مجرد جهود منفردة هنا وهناك؟ فالأقربون أولى بالمعروف، فما بالك إن كان المعروف وقوفًا مع الحق نفسه؟
أصوات أوروبية بارزة في مواجهة الإبادة
إنّ التاريخ، الذي لا ينسى الذين تجرؤوا على رفع الصوت حين صمت الآخرون، سيضع في الصفحة نفسها الرئيس بيدرو سانشيز، ووزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس، و نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية في بروكسل، السيدة تيريزا ريبيرا — أول صوت في بروكسل تجرأ على نطق كلمة «إبادة جماعية» — والسياسي والدبلوماسي المرموق السيد جوزيب بوريل، الذي مهّد بمساره في الدبلوماسية الأوروبية الطريق لهذا التحول.
إلى جانبهم سيبقى أيضًا من اختار من حكومات أوروبية أخرى أن يقف في الجانب المضيء من التاريخ:
- في إيرلندا نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ميشيل مارتن؛
- وفي السويد وزيرة الخارجية السابقة مارغوت فالستروم، الرائدة في الاعتراف بدولة فلسطين؛
- وفي هولندا وزير الخارجية والمفوض الأوروبي الحالي فوبكه هوكسترا.
إنّ هذه الالتقاء بين الشعوب والحكومات والضمائر هي التي سترسم، يومًا ما، السردية التي تقول إن العدالة والكرامة الإنسانية استطاعتا أن تتغلبا على ضجيج السلاح.
ملاحظة:This article was first published in نشر هذا المقال لأول مرة في جريدة السياسة يوم الأحد الموافق 14 سبتمبر 2025 Al-Seyasah on 14 September 2025.