بقلم: قيس عبدالله الجوعان


سياق موجز سباق «لا فويلتا» الإسباني للدراجات الهوائية، يعد واحداً من «الجولات الكبرى» إلى جانب سباقي فرنسا (تور دي فرانس) وجيرو دي إيطاليا. في الثالث من سبتمبر من هذا العام، تعطّلت المرحلة الحادية عشرة من السباق في مدينة بِلباو - إقليم الباسك - إثر احتجاجاتٍ مؤيِّدةٍ لفلسطين استهدفت وجود فريق Israel–Premier Tech، فقرر المنظّمون تحييد خطَّ النهاية "اتقاءً للمخاطر" على حد تعبيرهم.

هذه المقالة تُدرِج الواقعة في سؤالٍ أعمّ: ما معنى «الحياد الرياضي» إذا حُظِرَت روسيا وبيلاروسيا عام 2022، فيما تُتاح المشاركة لإسرائيل؟

لقد كشفت اضطرابات بِلباو عن معضلةٍ لم يعُد للرياضة عنها مَفرّ: أيُعقَل إعلانُ «حيادٍ سياسي» مع تطبيق مقاطعاتٍ انتقائية على دولٍ معيّنة، والتغاضي في الوقت ذاته عن انتهاكاتٍ منهجية يرتكبها آخرون؟

عام 2022، عقب غزو روسيا لأوكرانيا، جاء ردُّ المنظومة الرياضية سريعاً وحاسماً: استُبعِدت فرقٌ ولاعبون روسٌ وبيلاروس، وحظر الاتحاد الدولي للدراجات (UCI) مشاركتهم الدولياً. مبدأٌ واضح: لا حياد أمام عدوان، ولا منبر دعائيًّا لمنتهكٍ للقانون الدولي.

غير أنّ مشهد بلباو يُظهِر مفارقةً صارخة: الفريق الإسرائيلي—الذي رآه كثيرون تلميعًا للسمعة عبر الرياضة—واصل السباق رغم التحذيرات، مع تواتر اتهامات بجرائم حرب في غزة والضفة…

ولم تكن تلك شرارةَ الاحتجاج الأولى؛ فمنذ البدايات شهد المسار حواجز ولافتات وحوادث، حتى بلغ التوتّر مبلغَه فأُلغيت نهاية المرحلة وأُصيب درّاجون ورجال أمن.

ومع ذلك، جاء موقف (UCI) على غير ما كان مع روسيا وبيلاروسيا: تأكيدٌ لـ«الحياد السياسي» وإدانةٌ للاحتجاج، كأنّ العقوبة تُصَبّ على من يرفع الصوت لا على منشأ الإشكال الأخلاقي.

هنا تتبدّى المفارقة في أبين صورها: إن كان مقاطعة روسيا قد قُدِّمت بوصفها انسجاماً أخلاقياً وتضامناً مع أوكرانيا، فَلِمَ لا تُطبَّق المقاطعة ذاتها إزاء الدمار في غزة؟ أهو تطبيقٌ انتقائيّ للقانون الدولي تبعاً للجغرافيا، أم بحسابِ موازين الحلفاء وثِقَلهم؟

إذا جازَت المقاطعةُ اتّساقًا مع معيار أخلاقي في حالة روسيا، فبأيّ ميزانٍ تُدرأ عن إسرائيل مع بقاء العلّة؟

إنّ الحياد إذا نُزِع من اتّساقه صار وجهاً من وجوه التواطؤ؛ وحين يُدار بمنطق الكيل بمكيالين يفقد حجّته ويُبدي عواره. والحقّ أنّنا أمام حسابٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ مكشوف: عُزِلت روسيا دولياً، فيما تحظى إسرائيل بظهيرٍ أمريكيٍّ وأوروبيٍّ عريض. والاتحاد الدولي لا يعمل في فراغ؛ إنّما يستجيب لضغوط الرعاة، وإملاءات المصالح، وإيحاءات الدبلوماسية.

وعاقبة ذلك على الرياضة وخيمة: فإذا صار «الحياد» ستاراً يَستُر نفوذَ جماعات الضغط، انقلبت الرياضة من فضاءٍ جامعٍ إلى واجهةٍ تُدار بمنطق القوة لا بمنطق العدالة. وأوّل من يدفع الكلفة هم الدراجون أنفسهم، إذ يُساقون وقوداً لتناقضٍ مؤسّسيٍّ لا يد لهم فيه.

فالْسؤالُ إذن ليس: هل «تستوجب» مقاطعةُ إسرائيل؟ من جهة الأخلاق، نعم؛ فالمعايير التي قادت إلى معاقبة روسيا تُطَبَّق، من حيث المبدأ، على الاحتلال والاعتداءات في فلسطين. وإنما السؤال الحقّ: هل تَقوى المؤسَّسات الرياضية على تحمّل كلفة ذلك سياسياً واقتصادياً؟ والقرائن، إلى الآن، تشير إلى النفي.

وعلى هذه القاعدة ينكشف وجه الحياد حين يُختبر بالفعل لا بالقول.

وإذا اختلّ الميزانُ في الرياضة، صارَ الإنصافُ فيها زينةَ لافتاتٍ لا سيرةَ أفعال؛ يُعاقَبُ قومٌ ويُستثنى آخرون، فيَسقط الشعار وتبقى العبرة.

Sources Ask ChatGPT

إن رغبت بمتابعة النقاش خارج هذه الصفحة، تفضل بمتابعتي على X @Qais_Aljoan.


تنبيهٌ تحريريّ: يُنشَر هذا المقالُ بخمسِ لغات،.وموقفُه الأخلاقيّ وحجّتُهُ المركزيةُ واحدةٌ لا تتبدّل، وإن تبايَنَت صِيَغُه بين ما هو أرسخُ تحليلًا وأبلغُ بيانًا وأميَلُ إلى التأمّل الفلسفيّ. قصدًا وليس سهواً؛ فالاختلافُ اختلافُ قالبٍ لا اختلافُ جوهر.