رسالة السودان – الأرض التي لا تعترف بها الخرائط
دخل، كأنّه قادم من وطنٍ تخلّت عنه خرائطُه.
لم يكن حضوره صدى لمنصب، ولا في صوته ما يشبه الكلمات الجاهزة.
كان يحمل شيئًا لا يُعرّف، ولا يطلب شيئًا بالمقابل.
جلس بصمت، وكأنّ الحديث عن بلاده شيء يُقتطع من القلب لا من اللسان.
لمّا سألناه عن السودان، لم يُجب ببلاغة، بل همس كما يهمس من لا يثق بالهواء من حوله.
قال: "أطفالنا ليسوا لاجئين. إنهم أبناء وطنٍ ضاق بهم قبل أن يهربوا منه."
ثم صمت، وبقي الصدى.
لم أكن أملك ما أقوله.
كنت أبحث عن نافذة، عن فعل بسيط يشبه الترحيب، لكن الترحيب لا يُقال لمن خرج من بيتٍ لم يبق منه شيء.
تحدّث بعدها عن المدارس التي تهدّمت، ولم تكن قد اكتملت بعد.
عن الأمهات اللواتي يمددن أيديهن للدعاء، فلا يجدن ماءً يغتسلن به، ولا من ملاذٍ يُفضي إلى سميعٍ أو مجيب.
عن المساجد التي لم يجرؤ أحد على قصفها، لكنها بكت لأنّ صوتها لم يعد يُسمع.
لم يطلب شيئًا.
لم يطلب حتى الإصغاء.
كان وجوده، في حدّ ذاته، طلبًا خافتًا لا يُقال: أن نتذكّر، فقط أن نتذكّر.
أن نتذكّر أن بعض البلاد لا تُفهم من خلال أرقام، ولا تُعرَّف عبر سفارات، ولا تَظهر في القوائم إلا بعد فوات الأوان.
أن الخراب حين يستقر، لا يعلن نفسه بانفجار، بل يتسرّب في تفاصيل الحياة اليومية: في كوب الماء، في وجبة المدرسة، في لغة الطفل حين يتعلم اسم السلاح قبل اسم الحرف.
لا أحد يسمّي ذلك حربًا.
ولا أحد يعلنه رسميًا.
إنه فقط نوعٌ من الزوال التدريجي، كأنك تراقب كوكبًا يُطفأ على مهل.
حين نهض، لم يودّع.
ولم أمدّ يدي.
كأن اللقاء لم يكن لقاءً، بل مرورًا مؤلمًا بين زمنين: زمن الصمت، وزمن ما بعد الصمت.
وما زلت حتى اللحظة أستعيد نظرته الأخيرة.
نظرة من يُدرك أن العالم ليس عادلًا، لكنه لا يطلب منّا أن نكفّ عن قول الحقيقة.
وبعد مضيّ اللقاء، لم يبق فيّ من أثره سوى حاجة لأن أكتب — لا تقريرًا، بل نبضًا.
خرجت منّي هذه الأبيات كما يخرج الدعاء من حنجرة لا تتقن الخطابة.
قصيدة: على بابٍ من رماد
أتى زائرًا يشكو الخرابَ، ولم يكنْ
سِوى صمتٍ في أعماقهِ يتقطّعا
سألناه عن سودانه، فانحنى المدى،
وسالَ الكلامُ على لسانهِ دِمَعا
غبارٌ على الغيماتِ... أطفالُنا شتاتٌ،
وريحٌ تُذيبُ الماءَ في الكأسِ نزَعا
بلادٌ إذا قامتْ سقطتْ في رمادها،
وما عاد فيها غير جرحٍ يُرقّعا
مدارسُ محطومةٌ، ومآذنُ باكيةٌ،
وأمٌّ تنادي: أيّ طفلٍ يُرجعا؟
كأنّ الخرابَ استقرَّ فوق رؤوسهم،
ينامون لا ماءً لديهم، ولا دُعَا
فمددْتُ كفّي نحو بابٍ من رجاء،
فوجدتُ عليه القهرَ قد سدَّ موضعا
فهل نحنُ إلا شِبه ظلٍّ لا يُرى،
إذا اشتدّ فينا الحزنُ وانهدّ الهُجَعا؟
وما كلُّ من زارَ البلادَ سفيرُها،
ففي بعضهم صِدقٌ يعانقُ موضعا...
ولأهل السودان، منّا دعاءٌ لا ينقطع...
كُتِبَت في الثلث الأول من شهر يوليو / تموز لعام ٢٠٢٥،
وكان في القلب شيءٌ من رماد، وشيءٌ من رجاء.
قيس عبدالله الجوعان.