عندما تنطق العدالة من غير أهلها

بقلم: قيس عبدالله الجوعان
يوليو 2025

ففي زحمة الأصوات المتداخلة حول مأساة غزة، قلّما نسمع صوتًا قانونيًا خارجيًا ينطق بعبارات دقيقة، غير قابلة للتأويل. هذا المقال لا يهدف إلى تكرار الخطاب الحقوقي، بل إلى التوقف عند لحظة نادرة: أن يخرج صوت من قلب المؤسسة الأممية، ليُسجّل في العلن ما يخشاه كثيرون — بلغة القانون، لا بلاغة الاستعطاف.

حين تُفرَغ الوقائع من معانيها وتُطلى الأرقام بلون الحياد، يبقى القانون آخر ما يمكن التمسك به قبل الغرق في النسيان. في مشهدٍ يتسابق فيه الخطاب السياسي مع الضجيج الإعلامي، تبرز شهاداتٌ قانونية نادرة، لا لتصنع رأيًا عامًا، بل لتقيم الحجة قبل أن يُطوى الدليل.

في تقريرها الصادر نهاية يونيو 2025، والمعنون "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة" (A/HRC/59/23)، لا تكتفي ألبانيزي بتوصيف الواقع، بل تقتفي أثر البنية التي تجعل من الاحتلال مشروعًا اقتصاديًا مستدامًا، مدعومًا من شركات كبرى في مجالات الأسلحة، التكنولوجيا، الخدمات السحابية، والتمويل. تقول إن ما يحدث في غزة والضفة لم يعد مجرد انتهاك، بل أصبح "اقتصادًا متكاملاً" تُبنى فيه الثروات على ركام البيوت والمستشفيات وأجساد الأطفال.

وقد صدر هذا التقرير رسميًا عن مجلس حقوق الإنسان في 26 يونيو 2025، بعد توثيق دقيق وتحليل بنيوي للاقتصاد السياسي للاحتلال. وعلى الرغم من أن التقرير لم يسمِّ الشركات المعنية صراحة، فقد أشار إلى ضلوع كيانات تعمل في تكنولوجيا السحابة، والطائرات المسيّرة، والخدمات الرقمية، ضمن منظومة تتيح استدامة القمع وتوليد الأرباح منه، مما يطرح تساؤلات قانونية وأخلاقية بشأن مسؤولية هذه الجهات.

اللافت أن التقرير لا يركن إلى العاطفة، بل يحتكم إلى القانون: يُشير إلى المسؤولية الجنائية المحتملة لمديري الشركات، ويدعو إلى وقف التواطؤ التجاري، محذرًا من أن المشاركة، ولو غير المباشرة، في نظام الإبادة والتمييز العنصري، قد تُدرج ضمن الجرائم الدولية.

في المقابل، ظهرت حملة عالمية تطالب بترشيح فرانشيسكا ألبانيزي، إلى جانب الطواقم الطبية في غزة، لجائزة نوبل للسلام. ليست الحملة ذات طابع شعبي عاطفي فقط، بل تعكس إدراكًا متناميًا لأهمية الأصوات الحقوقية المستقلة في زمن تتآكل فيه المساحات القانونية، وتتواطأ فيه المصالح مع الإفلات من العقاب.

واللافت، بل والموجع، أن هذه الشهادة الصادحة لا تصدر عن منبر عربي، ولا عن صاحب وجع فلسطيني مباشر، بل عن امرأةٍ قانونية من الغرب، اختارت أن تُعرّض مهنتها وسمعتها للاتهام والتشهير، لا لشيء إلا لأنها قررت ألا تصمت. في المقابل، كم منّا نحن—أهل اللغة والتاريخ والقرابة—آثر المواربة أو التبرير أو حتى الصمت المطبق؟

قد لا تصل ألبانيزي إلى منصة نوبل، ولكنها وقفت، بشجاعة حقوقية رفيعة، لتقول إن الضمير لا يُشترى، وإن القانون، مهما تآكلت مؤسساته، لا يزال يحتفظ ببعض من نوره في يد من يرفض أن يلوثه.

في عالم تُستباح فيه الذاكرة، وتُمحى الجغرافيا، يظل صوت الحق القادم من بعيد، أكثر نقاءً وصدقًا من ضجيج القريب المتواطئ. وعلّ الصوت، حين لا يجد من يستقبله، يُصبح مرآةً لنا لا نحب أن نراها، لكنها واجبة الظهور.

🔗 تحميل التقرير الكامل باللغة الانجليزية بعنوان:من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة

وقد صدرت حملة عالمية تطالب بترشيح فرانشيسكا ألبانيزي والطواقم الطبية في غزة لنيل جائزة نوبل للسلام...

لماذا نوقّع؟ — اقرأ الملاحظات التكميلية

لدعم ترشيح فرانشيسكا ألبانيزي وفرق غزة الطبية لجائزة نوبل للسلام: 🔗 Avaaz — النسخة الإنجليزية